في 20 مايو 2024 أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية "كريم خان" أنه قد طلب إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين بارزين، رئيس الوزراء بنيامين (نتنياهو ووزير وزير الأمن يوآف غالانت)، حيث أوضح خان أن لديه دلائل وأسباب معقولة لإصدار أمر الاعتقال بحقهم بسبب ارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر علي الأقل، ويأتي قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين عن جرائمهم خطوة هامة نحو إنهاء عقود من الإفلات من العقاب عن الجرائم التي ارتكبت في فلسطين المحتلة ولا زالت ترتكب حتى يومنا هذا دون حسيب أو رقيب، ويأتي هذا القرار تأكيدًا على أهمية العدالة الدولية في التعامل مع الجرائم المستمرة وكافة انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة في عالمنا. إذ ترحب مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان بهذا القرار الصادر عن مكتب المدعي العام للجنائية الدولية، إلا أنها تنظر وتطلع إلى ضرورة بذل جهد أكبر من قبل محكمة الجنايات الدولية وكافة مؤسسات المجتمع الدولي المعنية بحقوق الإنسان إلى محاسبة المسؤولين الإسرائيليين بشكل كامل عن كافة الجرائم والانتهاكات على مدار عقود الاحتلال حتى يومنا هذا، حيث لا زالت دولة الاحتلال ترتكب أفظع وأقسى الانتهاكات بحق الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم بشكل علني وأمام العالم كله.

 

 ورغم أهمية هذا القرار، إلا أن المدعي العام لمحكمة الجنايات لم يتطرق بتاتًا للأسرى الفلسطينيين الذين يعيشون واحدة من أصعب المراحل على طول تاريخ الحركة الأسيرة، حيث أن الواقع داخل السجون أصبح مأساويًا أكثر بعد السابع من أكتوبر في ظل سياسة الانتقام والعقاب الجماعي بحق الأسرى داخل السجون.

 

ومنذ بداية الاحتلال للأراضي الفلسطينية، بدأت الجرائم والمجازر بحق الفلسطينيين من قبل مواطني دولة الاحتلال والمسؤولين، حيث أن المجازر والجرائم والابادة الجماعية لم تبدأ فقط منذ الثامن من أكتوبر، بل سبق ذلك على مدار عقود جرائم حرب ومجازر لا ينساها التاريخ، فمنذ نكبة عام 1948 التي تم خلالها تهجير أكثر من 700 ألف فلسطيني قسرًا من منازلهم، ولم يسمح لهم بالعودة مطلقًا، وقع الفلسطينيون في كافة أماكن تواجدهم ضحايا لجرائم وفظائع ارتكبت بحقهم.

 

وبالنظر إلى أن المحكمة الجنائية الدولية لها ولاية قضائية على الجرائم المرتكبة في فلسطين المحتلة منذ يونيو 2014، فإننا نشجع مكتب المدعي العام على التحقيق في الجرائم المرتكبة منذ هذا التاريخ ومقاضاة مرتكبيها مع الأخذ بعين الاعتبار انتهاكات حقوق الفلسطينيين في إطار تحليلي يعود إلى عام النكبة 1948 وما تلاها من جرائم على طول التاريخ.

 

وعلى طول تاريخ عملها، وثقت مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان جرائم ارتكبت بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون ومعتقلات الاحتلال، وعملت على تقديم تقارير موثقة إلى الجهات المعنية، بما في ذلك تقديم تقرير شامل إلى المحكمة الجنائية الدولية في عام 2022 حول الوضع في دولة فلسطين ومراكز اعتقال الاحتلال. وعلى سبيل المثال لا الحصر، شملت هذه الجرائم التعذيب باعتباره جريمة حرب (المادة وكجريمة ضد الإنسانية (المادة ٧.١.و) والسجن في انتهاك ضمانات المحاكمة العادلة باعتباره جريمة حرب (المادة ٨.٢.أ. ٦) وجريمة ضد الإنسانية (المادة ٧.١.هـ)، والقتل كجريمة حرب (المادة ٨.٢.أ.أ)، والاختفاء القسري كجريمة ضد الإنسانية (المادة ٧.١.هـ). ومن الجدير ذكره أنه تم توثيق هذه الجرائم من قبل المقررين الخاصين التابعين للأمم المتحدة، مثل فرانشيسكا ألبانيز، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالأراضي الفلسطينية المحتلة، في تقريرها عن الحرمان التعسفي من الحرية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

 

وعلى مدار العقود الماضية، قام الاحتلال ببناء نظام قضائي خصص للسيطرة على الفلسطينيين والعمل على تجريمهم ومعاقبتهم بشكل جماعي، فمنذ عام 1967، تستخدم إسرائيل المحاكم العسكرية لمحاكمة الفلسطينيين دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، وضمانات المحاكمة العادلة، والشفافية، واللجوء المنهجي إلى التعذيب أثناء الاستجواب. وكانت هذه المحاكم في كثير من الأحيان، ولا تزال، تمارس التمييز المنهجي والفصل العنصري القانوني ضد الفلسطينيين، وتعتبر بمثابة أداة لإدامة القمع والحفاظ على السيطرة على فلسطين المحتلة وسكانها. وهنا يجب الإشارة إلى أن مؤسسة الضمير قامت بالتواصل مع مكتب المدعي العام عام 2019 للنظر في نظام المحاكم العسكرية الإسرائيلية وآلية عملها واضطهادها لحقوق الفلسطينيين.

 

يعد الاعتقال الإداري أحد الأدوات الرئيسية لنظام المحاكم العسكرية الإسرائيلية، وهو إجراء يتم بموجبه احتجاز المعتقلين دون تهمة أو محاكمة، ويمكن تجديده إلى أجل غير مسمى، وهو بذلك أداة من أدوات فرض السيطرة والعقاب على الشعب الفلسطيني باعتباره أسهل أداة بيد الاحتلال لزج أكبر عدد من الفلسطينيين في السجون. وقد أتاح ذلك لقوات الاحتلال الإسرائيلي الاعتقال التعسفي السريع والواسع للفلسطينيين بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومنذ ذلك التاريخ، تم اعتقال أكثر من 8,800 فلسطيني وإصدار 5,900 أمر اعتقال إداري.  

 

ومن خلال التوثيق والرصد الذي تقوم به مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، وثقت المؤسسة زيادة كبيرة جدًا في استخدام العنف والتعذيب والتنكيل بالأسرى والمعتقلين بشكل ملحوظ بعد السابع من أكتوبر، إذ أصبحت ظروف الاحتجاز غاية في الصعوبة، حيث تستخدم سلطات الاحتلال سياسات تنكيلية بحقهم، منها سياسة التجويع والتعطيش، وإجبار المحتجزين على النوم في زنزانات شديدة البرودة، واكتظاظ الزنازين، واضطرار المحتجزين إلى النوم على الأرض، إضافة إلى تعرضهم للضرب عدة مرات في اليوم، أحيانًا حتى فقدان الوعي، والتهديد بالقتل أو العنف الجنسي أو تهديد عائلاتهم، ويتعرضون للتفتيش بشكل يومي، وهنا تجدر الإشارة إلى أن معتقلي قطاع غزة والذين تم اعتقالهم إبان التوغل البري داخل القطاع، يتعرضون لأشد أنواع الإذلال النفسي والتعذيب الجسدي، حيث يعيش المعتقلين من القطاع في ظل سياسة انتقامية، فيتعرضون للإذلال والشتم المتواصل، وإجبارهم على النباح، وسكب الطعام من قبل الحراس بأيديهم قبل تقديمه للأسرى، إضافة إلى وجود عدد من الأطفال من قطاع غزة يعيشون في مثل هذه الظروف.

 

إضافة إلى ذلك كله، تستكمل دولة الاحتلال دورها في انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة من خلال تنصلها من محاكمة الإسرائيليين الذين يرتكبون جرائم ضد المعتقلين الفلسطينيين، وفقًا للجنة العامة ضد التعذيب في إسرائيل (PCATI)، تم تقديم أكثر من 1400 شكوى بشأن التعذيب إلى وزارة العدل الإسرائيلية منذ عام 2001، وتم إغلاق جميع الحالات دون توجيه أي اتهام واحد. هذا ما حدث في قضية الأسير سامر العربيد وفشل السلطات الإسرائيلية في التحقيق وملاحقة الجناة المسؤولين عن الجرائم الرهيبة والتعذيب الذي تعرض له.

 

تشجع مؤسسة الضمير بقوة مكتب المدعي العام على التحقيق في الجرائم المذكورة أعلاه وإصدار أوامر اعتقال للمسؤولين عنها، بما في ذلك قادة الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة بسبب دورهم في إصدار أوامر الاعتقال الإداري وغيرها (المادة 28 من ميثاق روما)، إضافة إلى ذلك، تطالب الضمير مكتب المدعي العام أن يتم التحقيق بشكل شامل مع وزير الأمن القومي بن غفير، وكوبي يعقوبي، وكاتي بيري، رؤساء مصلحة السجون الإسرائيلية (IPS)، وجميع مديري السجون، وأعضاء إدارة IPS الآخرين، بالإضافة إلى ذلك، يجب التحقيق مع القضاة والمدعين العسكريين الإسرائيليين لتورطهم وتواطؤهم في المحاكم العسكرية وفشلهم في التحقيق في شكاوى التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان، فضلاً عن رئيس جهاز الأمن لمسؤوليته عن التعذيب الممارس أثناء التحقيقات. إن فشل التحقيق وملاحقة المرتكبين الإسرائيليين لمثل هذه الجرائم سيعزز فقط الظلم والنظام الكامل للإفلات من العقاب الذي أنشأته إسرائيل.